الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***
مكية بسم الله الرحمن الرحيم {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم اليهود والنصارى، {وَالْمُشْرِكِينَ} وهم عبدة الأوثان، {مُنْفَكِّين} [منتهين عن كفرهم وشركهم، وقال أهل اللغة]: زائلين منفصلين، يقال: فككت الشيء فانفكَّ، أي: انفصل، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} لفظه مستقبل ومعناه الماضي، أي: حتى أتتهم البينة، الحجة الواضحة، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، أتاهم بالقرآن فبيَّن لهم [ضلالاتهم] وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان. فهذه الآية فيمن آمن من الفريقين، أخبر أنهم لم ينتهوا عن الكفر حتى أتاهم الرسول فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا فأنقذهم الله من الجهل والضلالة. ثم فسر البينة فقال: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو} يقرأُ {صُحُفًا} كتبًا، يريد ما يتضمنه الصحف من المكتوب فيها، وهو القرآن؛ لأنه كان يتلو عن ظهر قلبه لا عن [الكتاب]، قوله: {مُطَهَّرَةً} من الباطل والكذب والزور. {فِيهَا} أي في الصحف، {كُتُبٌ} يعني الآيات والأحكام المكتوبة فيها، {قَيِّمَةٌ} عادلة مستقيمة غير ذات عوج.
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي البيان في كتبهم أنه نبي مرسل. قال المفسرون: لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله، فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا، فآمن به بعضهم، وكفر آخرون. وقال بعض أئمة اللغة: معنى قوله "منفكِّين": هالكين، من قولهم: انفك [صلا] المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك. ومعنى الآية: لم يكونوا هالكين معذبين إلا من بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتاب، والأول أصح. ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم فقال: {وَمَا أُمِرُوا} يعني هؤلاء الكفار، {إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} يعني إلا أن يعبدوا الله، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال ابن عباس: ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا [بالإخلاص في] العبادة لله موحدين، {حُنَفَاءَ} مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} المكتوبة في أوقاتها، {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} عند محلها، {وَذَلِك} الذي أمروا به، {دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي الملة والشريعة المستقيمة. أضاف الدين إلى القيِّمة وهي نعته، لاختلاف اللفظين، وأنَّث "القيِّمة" ردًا بها إلى الملة. وقيل: الهاء فيه للمبالغة، وقيل: "القيمة" هي الكتب التي جرى ذكرها، أي وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به، كما قال: "وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" [البقرة 213). قال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن قوله: "وذلك دين القيمة"؟ فقال: "القيمة": جمع القيِّم، والقِّيمُ والقائمُ واحدٌ، ومجاز الآية: وذلك دين القائمين لله بالتوحيد.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} ثم ذكر ما للفريقين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} قرأ نافع وابن عامر "البريئة" بالهمزة في الحرفين لأنه من قولهم: برأ الله الخلق وقرأ الآخرون مشددا بغير همز كالذرية ترك همزها في الاستعمال. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} وتناهَى عن المعاصي. وقيل: الرضا ينقسم إلى قسمين: رضًا به ورضًا عنه، فالرضا به: ربًّا ومدبِّرًا، والرضا عنه: فيما يقضي ويُقدِّر. قال السدي رحمه الله: إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك؟ أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة عن أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيّ: "إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك: "لم يكن الذين كفروا" قال: وسماني؟ قال: "نعم" فبكى. وقال همام عن قتادة: "أمرني أن أقرأ عليك القرآن".
مكية بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ} حُرِّكت [الأرض] حركة شديدة لقيام الساعة، {زِلْزَالَهَا} تحريكها. {وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا} موتاها وكنوزها فتلقيها على ظهرها. أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَقِيءُ الأرضُ أفلاذَ كبدها أمثال [الأسطُوان] من الذهب والفضة، فيجيء القاتلُ فيقولُ: في هذا قَتَلْتُ، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قَطَعْتُ رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قُطِعتْ يدي، ثم يَدَعُونه فلا يأخذون منه شيئا". {وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا}؟ قيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فيقول الإنسان: "ما لها "، أي تخبر الأرض بما عمل عليها. أخبرنا أبو بكر محمد عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب، حدثنا يحيى بن أبي سليمان عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: "أتدرون ما أخبارها"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن أخبارها أن تشهدَ على كل عبدٍ وأمةٍ بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل عليَّ يوم كذا وكذا كذا وكذا قال: فهذه أخبارها".
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي: أمرها بالكلام وأذِن لها بأن تخبر بما عمل عليها. قال ابن عباس والقرظي: أوحى إليها. ومجاز الآية: يوحِي الله، إليها، يقال: أوحى لها، وأوحى إليها ووحَّى لها، ووحَّى إليها، واحد. قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض، {أَشْتَاتًا} متفرقين فأخذ ذات اليمين إلى الجنة وآخذ ذات الشمال إلى النار، كقوله: "يومئذ يتفرقون" [الروم - 14]، "يومئذ يصدعون". (الروم - 43]. {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} قال ابن عباس: ليروا جزاء أعمالهم، والمعنى: أنهم يرجعون عن الموقف فرقًا لينزلوا منازلهم من الجنة والنار. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} وزن نملة صغيرة أصغر ما يكون من النمل. {خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرًا أو شرًا في الدنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة، فأما المؤمن فُيَرى حسناته وسيئاته فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فتردُّ حسناته ويعذبه بسيئاته. قال محمد بن كعب في هذه الآية "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره": من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، "ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين، وذلك أنه لما نزل "ويطعمون الطعام على حبه" كان أحدهما يأتيه السائل فيستقلُّ أن يعطيه التمرة والكِسْرة والجوزة ونحوها، يقول: ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك، ويقول: إنما وعد الله النارَ على الكبائر، وليس في هذا إثم، فأنزل الله تعالى هذه الآية يرغِّبهم في القليل من الخير أن يعطوه، فإنه يوشك أن يكثر، ويحذرهم اليسير من الذنب، فإنه يوشك أن يكثر، فالإثم الصغير في عين صاحبه أعظم من الجبال يوم القيامة، وجيمع محاسنه [في عينه] أقل من كل شيء. قال ابن مسعود: أَحْكَمُ آيةٍ في القرآن "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميها الجامعةَ الفاذَّة حين سئل عن زكاة الحمر فقال: "ما أنزل عليَّ فيها شيءٌ إلا هذه الآية الجامعة الفاذَّة "فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره". وتصدق عمر بن الخطاب، وعائشة بحبة عنب، وقالا فيها مثاقيل كثيرة. وقال الربيع بن خيثم: مر رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة فلما بلغ آخرها قال: حسبي قد انتهت الموعظة. أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا محمد بن القاسم، حدثنا أبو بكر محمد عبد الله، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا علي بن حجر، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا اليمان بن المغيرة، حدثنا عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا زلزلت الأرض " تعدل نصف القرآن، " قل هو الله أحد "، تعدل ثلث القرآن، " قل يا أيها الكافرون " تعدل ربع القرآن".
مكية بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} قال ابن عباس، وعطاء ومجاهد، وعكرمة، والحسن، والكلبي، وقتادة، والمقاتلان، وأبو العالية وغيرهم: هي الخيل العادية في سبيل الله عز وجل تَضْبَحُ، والضَّبْح: صوت أجوافها إذا عَدَتْ. قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوانات تضبح غير الفرس والكلب والثعلب، وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيَّر حالها من تعب أو فزع، وهو من [قولهم] ضَبَحَتْهُ النارُ، إذا غيرَّت لونه. [وقوله: "ضبحًا" نصب على المصدر، مجازه: والعاديات تضبح ضبحًا]. وقال علي: هي الإبل في الحج، تعدو من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى، وقال إنها نزلت في وقعة بدر، [كانت أول غزوة في الإسلام بدرًا] وما كان معنا إلا فَرَسان، فَرَسٌ للزبير وفرس للمقداد بن الأسود فكيف تكون الخيل العاديات؟ وإلى هذا ذهب ابن مسعود، ومحمد بن كعب، والسُّدي. وقال بعض من قال: هي الإبل: قوله "ضبحًا" يعني ضباحًا تمد أعناقها في السير.
{فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} قال عكرمة، وعطاء، والضحاك، ومقاتل، والكلبي،:هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة. يعني: والقادحات قدحًا يقدحن بحوافرهن. وقال قتادة: هي الخيل تهيج الحربَ ونارَ العداوة بين فرسانها. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: هي الخيل تغزو في سبيل الله ثم تأوي بالليل [إلى مأواها] فيورون نارهم، ويصنعون طعامهم. وقال مجاهد، وزيد بن أسلم: هي مكر الرجال، يعني رجال الحرب، والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه: أما والله لأقدحن لك ثم لأوِريَنَّ لك. وقال محمد بن كعب: هي النيران تجتمع. {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} هي الخيل تغير بفرسانها، على العدو عند الصباح، هذا قول أكثر المفسرين. وقال القرظي: هي الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جَمْع إلى منى، والسُّنَة أن لا تدفع [بركبانها يوم النحر] حتى تصبح والإغارة سرعة السير، ومنه قولهم: أشرق ثبير كيما نغير. {فَأَثَرْنَ بِهِ} أي هيَّجن بمكان [سيرهن] كناية عن غير مذكور، لأن المعنى مفهوم، {نَقْعًا} غبارا، والنَّقْع: الغبار. {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} أي دخلن به وسط جمع العدو، وهم الكتيبة يقال: وَسَطْت، القوم بالتخفيف، ووسطتهم، بالتشديد، وتوسَّطهم بالتشديد، كلها بمعنى واحد. قال القرظي: [هي الإبل توسط بالقوم] يعني جَمْع منى، [هذا موضع القسم]، أقسم الله بهذه الأشياء.
{إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)} {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: "لكنود": لكفور جحود لنعم الله تعالى. قال الكلبي: هو بلسان مضر وربيعة الكفور، وبلسان كندة وحضرموت العاصي. وقال الحسن: هو الذي يعد المصائب وينسى النعم. وقال عطاء: هو الذي لا يعطي في النائبة مع قومه. وقال أبو عبيدة: هو قليل الخير، والأرض الكنود: التي لا تنبت شيئا. وقال الفضيل بن عياض: "الكنود" الذي أنْسَتْه الخصلة، الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، و"الشكور": الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة. {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} قال [أكثر المفسرين]: وإن الله على كونه كنودًا لشاهد. وقال ابن كيسان: الهاء راجعة إلى الإنسان أي: إنه شاهد على نفسه بما يصنع. {وَإِنَّه} يعني الإنسان، {لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي لحب لمال، {لَشَدِيدٌ} أي: لبخيل، أي إنه من أجل حب المال لبخيل. يقال للبخيل: شديد ومتشدد. وقيل: معناه وإنه لحب الخير لقوي، أي شديد الحب للخير أي المال. {أَفَلا يَعْلَمُ} أي: أفلا يعلم هذا الإنسان، {إِذَا بُعْثِرَ} أي: أُثِيرَ وأُخْرِج، {مَا فِي الْقُبُورِ} [من الموتى]. {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} أي: مُيّز وأبرز ما فيها من خير أو شر.
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)} {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ}، [جمع] الكناية لأن الإنسان اسم لجنس، {يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} عالم، قال الزجاج: إن الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ولكن المعنى أنه يجازيهم على كفرهم في ذلك [اليوم].
مكية بسم الله الرحمن الرحيم {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)} {الْقَارِعَةُ} [اسم] من أسماء القيامة، لأنها تقرع القلوب بالفزع. {مَا الْقَارِعَةُ} تهويل وتعظيم. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} هذا الفَراش: الطير [الصغار البق، واحدها فراشة، أي: كالطير] التي تراها تتهافت في النار، والمبثوث: المتفرق. وقال الفراء: كغوغاء الجراد، شبه الناس عند البعث بها [لأن الخلق] يموج بعضهم في بعض ويركب بعضهم بعضا من الهول كما قال: "كأنهم جراد منتشر" [القمر - 7]. {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} كالصوف المندوف. {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} رجحت حسناته [على سيئاته]. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} مَرْضِيَّة في الجنة. قال الزجاج ذات رضا يرضاها صاحبها.
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} رجحت سيئاته على حسناته. {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} مسكنه النار، سمي المسكن أمًا لأن الأصل في السكون إلى الأمهات، والهاوية اسم من أسماء جهنم، وهو المهواة لا يدرك قعرها، وقال قتادة: وهي كلمة عربية تقولها العرب للرجل إذا وقع في أمر شديد، يقال: هوت أمه. وقيل: "فأمه هاوية"] أراد أم رأسه "منحدرة منكوسة"] يعني أنهم يهوون في النار على رءوسهم، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} يعني الهاوية، وأصلها: ما هي، أدخل الهاء فيها للوقف والاستراحة ثم فسرها فقال: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي حارة قد انتهى حرها.
مكية بسم الله الرحمن الرحيم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} شغلتكم المباهاة والمفاخرة والمكاثرة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم وما ينجيكم من سخطه. {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} حتى [متم] ودفنتم في المقابر. قال قتادة: نزلت في اليهود، قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضُلالا. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في حيين من قريش؛ بني عبد مناف بن قصي، وبني سهم بن عمرو، كان بينهم تفاخر، [فتعادَّ] السادة والأشراف أيهم أكثر عددًا؟ فقال بنو عبد مناف: نحن أكثر سيدًا وأعز عزيزًا وأعظم نفرًا وأكثر عددًا، وقال بنو سهم مثل ذلك، فكثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعدّ، موتانا، حتى زاروا القبور فعدوهم، فقالوا: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عددًا، فأنزل الله هذه الآية.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا عبد الرحيم بن منيب، حدثنا النضر بن شُمَيْل، عن قتادة عن مطرف بن عبد الله الشخير، عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية: "ألهاكم التكاثر"، قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك، إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لَبِسْتَ فأبليتَ، أو تصدقت فأمضيت". أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَتْبَع، الميتَ ثلاثةٌ، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعُه أهلُه ومالُه وعملُه، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله". ثم رد الله عليهم فقال:
{كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)} {كَلا} ليس الأمر بالتكاثر، {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعيد لهم، ثم كرره تأكيدًا فقال: {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} قال الحسن، ومقاتل: هو وعيد بعد وعيد، والمعنى: سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم الموت. وقال الضحاك: "كلا سوف تعلمون"، يعني الكفار، "ثم كلا سوف تعلمون" يعني المؤمنين، وكان يقرأ الأولى بالياء والثانية بالتاء. {كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أي: علمًا يقينًا، فأضاف العلم إلى اليقين كقوله: "لهو حق اليقين"، وجواب "لو" محذوف، أي: لو تعلمون علمًا يقينًا لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر. قال قتادة: كنا نتحدث أن علم اليقين أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت. {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} قرأ ابن عامر والكسائي: "لُتَروُن" بضم التاء من أريته الشيء، وقرأ الآخرون بفتح التاء، أي: ترونها بأبصاركم من بعيد.
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} مشاهدة، {عَيْنَ الْيَقِينِ} {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال مقاتل: يعني كفار مكة، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، ولم يشكروا رب النعيم حيث عبدوا غيره، ثم يعذبون على ترك الشكر، هذا قول الحسن. وعن ابن مسعود رفعه قال: "لتسئلن يومئذ عن النعيم" قال: "الأمن والصحة". وقال قتادة: إن الله يسأل كل ذي نعمة عما أنعم عليه أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، حدثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي، حدثنا عَبْد، بن حُمَيْد، حدثنا شبابة عن عبد الله بن العلاء عن الضحاك بن عرزم الأشعري قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما يُسأل العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصحَّ جسمك؟ ونروِّك من الماء البارد". أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شيبان أبو معاوية، حدثنا عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر فقال: ما جاء بك يا أبا بكر؟ فقال: خرجت لألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر إلى وجهه وللتسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر، فقال: ما جاء بك يا عمر؟ قال: الجوع يا رسول الله، قال [النبي صلى الله عليه وسلم]: "وأنا قد وجدت، بعض ذلك"، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التَّيهَان الأنصاري، وكان رجلا كثير النخل والشاء، ولم يكن له خَدَم، فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبُك؟ فقالت: انطلق ليستعذب لنا الماء، فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها ماءً فوضعها، ثم جاء يلتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطًا، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بِقنْوٍ فوضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلا تنقَّيْتَ لنا من رُطَبِه وبُسْرِه"، فقال: يا رسول الله إني أردت أن تخيروا [أو قال: أن تختاروا] من رطبه وبسره، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورُطَب طيب، وماء بارد"، فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعامًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحنَّ ذات دِّر"، فذبح لهم عَنَاقًا أو جَدْيًا فأتاهم بها، فأكلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك خادم؟ قال: لا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا أتانا سبيٌ فَأْتِنَا"، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهما"، فقال: يا نبي الله اختْر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، "إن المستشار مؤتمن، خذ هذا، فإني رأيته يصلي، واستوصِ به معروفًا" فانطلق به أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ فيه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، "إن الله تبارك وتعالى لم يبعث نبيًا ولا خليفة إلا وله بِطَانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا ومن يوق بطانة السوء فقد وُقِي". وروي عن ابن عباس قال: النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل الله العبيد فيم استعملوها؟ وهو أعلم بذلك منهم، وذلك قوله: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا" [الإسراء - 36]. وقال عكرمة: عن الصحة والفراغ. وقال سعيد بن جبير: عن الصحة والفراغ والمال. أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، حدثنا الحسين بن الحسن بمكة، حدثنا عبد الله بن المبارك والفضل بن موسى، قالا حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". قال محمد بن كعب: يعني عما أنعم عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال أبو العالية: عن الإسلام والسنن. وقال الحسين بن الفضل: تخفيف الشرائع وتيسير القرآن.
مكية بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} {وَالْعَصْرِ} قال ابن عباس: والدهر. قيل: أقسم به لأن فيه عبرة للناظر. وقيل: معناه ورب العصر، وكذلك في أمثاله. واقل ابن كيسان: أراد بالعصر الليل والنهار، يقال لهما العصران. وقال الحسن: من بعد زوال الشمس إلى غروبها. وقال قتادة: آخر ساعة من ساعات النهار. وقال مقاتل: أقسم بصلاة العصر وهي الصلاة الوسطى. {إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أي خسران ونقصان، قيل: أراد به [الكافر] بدليل أنه استثنى المؤمنين، و "الخسران": ذهاب رأس مال الإنسان في هلاك نفسه وعمره [بالمعاصي]، وهما أكبر رأس ماله. {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنهم ليسوا في خسر، {وَتَوَاصَوْا} أوصى بعضهم بعضا، {بِالْحَق} بالقرآن، قاله الحسن وقتادة، وقال مقاتل: بالإيمان والتوحيد. {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} على أداء الفرائض وإقامة أمر الله. وروى ابن عون عن إبراهيم قال: أراد أن الإنسان إذا عُمِّر في الدنيا وهرم، لفي نقص وتراجع إلا المؤمنين، فإنهم يكتب لهم أجورهم ومحاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم وصحتهم، وهي مثل قوله: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات".
مكية بسم الله الرحمن الرحيم {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} قال ابن عباس: هم المشّاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء العيب، ومعناهما واحد وهو العيَّاب. وقال مقاتل: "الهمزة": الذي يعيبك في الغيب، و"اللمزة": الذي يعيبك في الوجه. وقال أبو العالية والحسن بضده. وقال سعيد بن جبير، وقتادة: "الهمزة" الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم، و "اللمزة": الطعان عليهم. وقال ابن زيد: "الهمزة" الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، و "اللمزة": الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال سفيان الثوري: ويهمز بلسانه ويلمز بعينه. ومثله قال ابن كيسان: "الهمزة" الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ و "اللمزة" الذي يومض بعينه ويشير برأسه، ويرمز بحاجبه وهما نعتان للفاعل، نحو سُخَرة وضُحَكة: للذي يسخر ويضحك من الناس [والهمزة واللمزة، ساكنة الميم، الذي يُفْعَل ذلك به]. وأصل الهمز: الكسر والعض على الشيء بالعنف. واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؟ قال الكلبي: نزلت في الأخنس بن شُريق بن وهب الثقفي كان يقع في الناس ويغتابهم. وقال محمد بن إسحاق: ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة [نزلت في أمية بن خلف الجمحي]. وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ويطعن عليه في وجهه. وقال مجاهد: هي عامة في حق كل من هذه صفته.
{الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ (7)} ثم وصفه فقال: {الَّذِي جَمَعَ مَالا} قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: "جمع" بتشديد الميم على التكثير، وقرأ الآخرون بالتخفيف. {وَعَدَّدَهُ} أحصاه، وقال مقاتل: استعده وادخره وجعله عتادًا له، يقال: أعددت [الشيء] وعددته إذا أمسكته. {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} في الدنيا، يظن أنه لا يموت مع يساره. {كَلا} رَدًّا عليه أن لا يخلده ماله، {لَيُنْبَذَن} ليطرحن، {فِي الْحُطَمَةِ} في جهنم، والحطمة من أسماء النار، مثل: سَقَر، ولَظَى سميت "حطمة" لأنها تحطم العظام وتكسرها. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ} أي التي يبلغ ألمها ووجعها إلى القلوب، والاطلاع والبلوغ بمعنى واحد، يحكى عن العرب: متى طلعت أرضنا؟ أي بلغت. ومعنى الآية: أنها تأكل كل شيء منه حتى تنتهي إلى فؤادهُ قاله القرظي والكلبي.
{إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} مطبقة مغلقة. {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} قرأ حمزةُ والكسائيُ وأبو بكر: {فِي عُمُدٍ} بضم العين والميم، وقرأ الآخرون بفتحهما، كقوله تعالى: "رفع السموات بغير عمد ترونها" [الرعد - 2] وهما جميعا جمع عمود، مثل: أديم وأدَم [وأُدُم]، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: جمع عماد، مثل: إهاب وأهَب وأهُب. قال ابن عباس: أدخلهم في عمد فمدت عليهم بعماد. [وقيل: "في عمد ممددة]: في أعناقهم الأغلال السلاسل. [وقيل: "هي عمد ممددة": على باب جهنمُ]، سدت عليهم بها الأبواب [لا يمكنهم الخروج]. وقال قتادة: بلغنا أنها عمد يعذبون بها في النار. وقيل: هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار، أي أنها مطبقة عليهم بأوتاد ممددة، وهي في قراءة عبد الله "بعُمُدٍ" بالباء. قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم ثم سُدَّتْ بأوتاد من حديد من نار حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا يفتح عليهم باب ولا يدخل عليهم رَوْح، والممددة من صفة العمد، أي مطولة فتكون أرسخ من القصيرة.
مكية بسم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}؟ وكانت قصة أصحاب الفيل - على ما ذكره محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس وذكره الواقدي -: أن النجاشي ملك الحبشة كان قد بعث "أرياط" إلى أرض اليمن فغلب عليها، فقام رجل من الحبشة، يقال له: "أبرهة بن الصباح" [أبو يكسوم]،، فسَاخَطَ "أرياطَ" في أمر الحبشة، حتى انصدعوا صدعين، وكانت طائفة مع أرياط، وطائفة مع أبرهة، فتزاحفا فقتل أبرهة، أرياطَ، واجتمعت الحبشة لأبرهة، وغلب على اليمن وأقرَّه النجاشي، على عمله. ثم إن أبرهة رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله، فبنى كنيسة بصنعاء وكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يُبْن لملك مثلها، ولست منتهيًا حتى أصرف إليها حج العرب، فسمع به رجل من بني مالك بن كنانة [فخرج إليها مستخفيًا] فدخلها ليلا فقعد فيها وتغوط بها، ولطخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال: من اجترأ علي ولطخ كنيستي بالعذرة؟ فقيل له: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع بالذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك: ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له محمود، وكان فيلا لم ير مثله عِظَمًا وجِسْمًا وقوة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة من الحبشة سائرا إلى مكة، وخرج معه الفيل، فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوا جهاده حقًا عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن، يقال له: ذو نفر، بمن أطاعه من قومه، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذا نفر، فقال: أيها الملك لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي، فاستحياه وأوثقه. وكان أبرهة رجلا حليمًا. ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خَثْعَم، خرج نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن، فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيلا فقال نفيل: أيها الملك إني دليل بأرض العرب، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه، وخرج معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مُعتِّب في رجال من ثقيف فقال: أيها الملك نحن عبيدك، ليس لك عندنا خلاف، وإنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبا رِغَال، مولى لهم، فخرج حتى إذا كان [بالمُغَمَّس] مات أبو رِغَال وهو الذي يرجم قبره، وبعث أبرهة من المغمس رجلا من الحبشة، يقال له: الأسود بن مسعود، على مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نَعَمِ الناس، فجمع الأسود إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير. ثم إن أبرهة بعث حباطة الحِمْيَري إلى أهل مكة، وقال: سلْ عن شريفها ثم أبلِغْه ما أرسِلُكَ به إليه، أخبره أني لم آتِ لقتالٍ، إنما جئت لأهدم هذا البيت. فانطلق حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم، فقال: إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتالٍ إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم. فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال ولا لنا به يد إلا أن نخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخلّ بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوة. قال: فانطلِقْ معي إلى الملك، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى قدم المعسكر، وكان ذو نفر صديقًا لعبد المطلب فأتاه فقال: يا ذا نفر، هل عندك من [غناء] فيما نزل بنا؟ فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشيا، ولكن سأبعث إلى أنيس، سائسِ الفيل، فإنه لي صديق فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له: إن هذا سيد قريش صاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رءوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي، أحِبّ، ما وصل إليه من الخير، فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رءوس الجبال، يستأذن إليك وأنا أحب أن تأذن له فيكلمك، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له، وكان عبد المطلب رجلا جسيمًا وسيمًا، فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه، وكره أن يجلس معه على السرير وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه ثم دعاه فأجلسه معه، ثم قال لترجمانه قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يردَّ علي مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، وقد زهدت فيك، قال [عبد المطلب]: لم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها؟ قال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل وإن لهذا البيت ربًا سيمنعه، قال ما كان ليمنعه مني، قال فأنت وذاك، فأمر بإبله فرُدَّت عليه. فلما رُدّتِ الإبل إلى عبد المطلب خرج فأخبر قريشًا الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في رءوس الجبال، تخوفًا عليهم من معرة الجيش، ففعلوا، وأتى عبد المطلب الكعبة، وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول:
يا رب لا أرجو لَهُم سواكَا *** يا رب فامْنَع منهم حِمَاكَا إن عدوَّ البيت من عَادَاكَا *** امْنَعْهُم أن يُخْرِبُوا قُرَاكا وقال أيضا: لا هُمَّ إن العَبْد يمنع *** رَحْلَه فامْنَع حِلالَكْ لا يَغْلِبَنَّ صليبُهُم *** وَمِحَالُهم غَدْوًا مِحَالَكْ جروُّا جُمُوع بِلادِهم *** والفيل كي يَسْبُوا عِيَالَكْ عمدوا حِمَاك بِكَيْدِهِمْ *** جَهْلا وما رقَبُوا جَلالَك إن كنت تاركهم وكعبَتَنَا *** فأمْرٌ ما بدَالَكْ فلم أسمع بأَرْجَسَ من رجالٍ *** أرادوا الغزو ينتهكوا حَرَامَك ثم ترك عبد المطلب الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغَمَّس قد تهيأ للدخول وعبَّأ جيشه وهيأ فيله، وكان فيلا لم ير مثله في العظم والقوة ويقال كان معه اثنا عشر فيلا. فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه فقال: ابرك محمود وارجع راشدًا من حيث جئت [فإنك] في بلد الله الحرام، فبرك الفيل فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم. وخرج نفيل يشتد حتى [صعد] في الجبل، وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل [طائر] منها ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، أمثال الحمص والعدس، فلما غشين القوم أرسلنها عليهم فلم تصب تلك الحجارة أحدًا إلا هلك، وليس كل القوم أصابت وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاءوا منه، يتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، ونفيل ينظر إليهم من بعض تلك الجبال، فصرخ القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل [مهلك]. وبعث الله على أبرهة داء في جسده فجعل يتساقط أنامله كلما سقطت أنملةٌ اتبعتها [مِدَّةٌ من قيح ودم]، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك. قال الواقدي: وأما محمود، فيل النجاشي، فربض ولم [يسر] على الحرم فنجا، والفيل الآخر شجع فحصب. وزعم مقاتل بن سليمان أن السبب الذي جَرَّأ أصحاب الفيل: أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي فدنوا من ساحل البحر وثَمَّ بيعة للنصارى تسميها قريش "الهيكل"، فنزلوا فأجَّجوا نارًا واشتووا فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف فعجَّت الريح فاضطرم الهيكل نارًا فانطلق الصريخ إلى النجاشي فأسف غضبًا للبيعة، فبعث أبرهة لهدم الكعبة. وقال فيه: إنه كان بمكة يومئذ أبو مسعود الثقفي وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة؛ وكان رجلا نبيهًا نبيلا تستقيم الأمور برأيه، وكان خليلا لعبد المطلب، فقال له عبد المطلب: ماذا عندك هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك؟ فقال أبو مسعود: اصعد بنا إلى حراء فصعد الجبل، فقال أبو مسعود لعبد المطلب: اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها لله وقلِّدها نعلا ثم أرسلها في الحرم لعل بعض هذه السودان يعقر منها شيئًا، فيغضب رب هذا البيت فيأخذهم، ففعل ذلك عبد المطلب فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها وجعل عبد المطلب يدعو، فقال أبو مسعود: إن لهذا البيت ربًا يمنعه، فقد نزل تُبَّع، ملك اليمن صحن هذا البيت وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه، وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض، وعظمه ونحر له جزورًا. [ثم قال أبو مسعود] فانظر نحو البحر، فنظر عبد المطلب فقال: أرى طيرًا بيضاء نشأت من شاطئ البحر، فقال: ارمقها ببصرك أين قرارها؟ قال أراها قد دارت على رءوسنا، قال: فهل تعرفها؟ قال: فوالله ما أعرفها ما هي بنجدية ولا تهامية ولا غربية ولا شامية، قال: ما قدها؟ قال: أشباه [اليعاسيب]، في منقارها حصى كأنها حصى الحذف، قد أقبلت كالليل يكسع بعضُها بعضًا، أمام كل رفقة طيرٌ يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، فجاءت حتى إذا حاذت بعسكر القوم [وَكَدَت] فوق رءوسهم، فلما توافت الرجال كلها أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب في كل حجر اسم صاحبه، ثم إنها انصاعت راجعة من حيث جاءت، فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل فمشيا ربوة فلم يؤنسا أحدًا ثم دنوا ربوة فلم يسمعا حِسَّا فقالا بات القوم [ساهرين]، فأصبحوا نيامًا، فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هم خامدون، وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى يقع في دماغه ويخرق الفيل والدابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه، فعمد عبد المطلب فأخذ فأسًا 2 من فؤسهم فحفر حتى أعْمَقَ في الأرض فملأه من أموالهم، من الذهب الأحمر والجوهر، وحفر لصاحبه حفرة فملأها كذلك، ثم قال لأبي مسعود: هات فاختر إن شئت حفرتي وإن شئت حفرتك، وإن شئت فهما لك معا، قال أبو مسعود: اختر لي على نفسك، فقال عبد المطلب إني لم آل أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك، وجلس كل واحد منهما على حفرته، ونادى عبد المطلب في الناس، فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعًا، وساد عبد المطلب بذلك قريشا وأعطته المقادة، فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنىً من ذلك المال، ودفع الله عن كعبته وبيته. واختلفوا في تاريخ عام الفيل؛ فقال مقاتل: كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة. وقال الكلبي: بثلاث وعشرين سنة. والأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}؟ قال مقاتل: كان معهم فيل واحد. وقال الضحاك: كانت الفيلة ثمانية. وقيل اثنا عشر، سوى الفيل الأعظم، وإنما وُحِّد لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم. وقيل: لوفاق رءوس الآي.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)} {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}"كيدهم" يعني مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة. وقوله: "في تضليل" عما أرادوا، وأضلَّ كيدهم حتى لم يصلوا إلى الكعبة، وإلى ما أرادوه بكيدهم. قال مقاتل: في خسارة، وقيل: في بطلان. {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} كثيرة متفرقة يتبع بعضها بعضًا. وقيل: أقاطيع كالإبل المؤبلة. قال أبو عبيدة. أبابيل جماعات في تفرقة، يقال: جاءت الخيل أبابيل من هاهنا وهاهنا. قال الفراء:لا واحد لها من لفظها. وقيل: واحدها إبّالة. وقال الكسائي: إني كنت أسمع النحويين يقولون: واحدها أبول، مثل عجول وعجاجيل. وقيل: واحدها من [لفظها] إبيل. قال ابن عباس: كانت طيرًا لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب. وقال عكرمة: لها رءوس كرءوس السباع. قال الربيع: لها أنياب كأنياب السباع. وقال سعيد بن جبير: خضر لها مناقير صفر. وقال قتادة: طير سود جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا مع كل طائر ثلاثة أحجار؛ حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا تصيب شيئا إلا هشمته.
{تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} قال [ابن عباس] وابن مسعود: صاحت الطير ورمتهم بالحجارة، فبعث الله ريحًا فضربت الحجارة فزادتها شدَّة فما وقع منها حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره. {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} كزرع وتبن أكلته الدواب فراثته فيبس وتفرقت أجزاؤه. شُبِّه تقطُّع، أوصالهم بتفُّرقِ أجزاء الرَّوْث. قال مجاهد: "العصف" ورق الحنطة. وقال قتادة: هو التبن. وقال عكرمة: كالحب إذا أكل فصار أجوف. وقال ابن عباس: هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف له.
مكية بسم الله الرحمن الرحيم {لإيلافِ قُرَيْشٍ (1)} {لإيلافِ قُرَيْشٍ} قرأ أبو جعفر: "لِيلافِ" بغير همز "إلافِهم" طلبًا للخفة، وقرأ ابن عامر " لالآف " بهمزة مختلسة من غير ياء بعدها [على وزن لغلاف] وقرأ الآخرون بهمزة مشبعة وياء بعدها، واتفقوا - غير أبي جعفر - في "إيلافهم" أنها بياء بعد الهمزة، إلا عبد الوهاب بن فليح عن ابن كثير فإنه قرأ: "إِلْفِهِمْ" ساكنة اللام بغير ياء. وعدَّ بعضهم سورة الفيل وهذه السورة واحدة؛ منهم أبَيّ بن كعب لا فصل بينهما في مصحفه، وقالوا: اللام في "لإيلاف" تتعلق بالسورة التي قبلها، وذلك أن الله تعالى ذكَّر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما صنع بالحبشة، وقال: {لإيلافِ قُرَيْشٍ}. وقال الزجاج: المعنى: جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي [يريد إهلاك أهل] الفيل لتبقى قريش [وما ألفوا من] رحلة الشتاء والصيف. وقال مجاهد: ألفوا ذلك فلا يشق عليهم في الشتاء والصيف. والعامة على أنهما سورتان، واختلفوا في العلة الجالبة للام في قوله "لإيلاف"، قال الكسائي والأخفش: هي لام التعجب، يقول: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت، ثم أمرهم بعبادته كما تقول في الكلام لزيد وإكرامنا إياه على وجه التعجب: اعجبوا لذلك: والعرب إذا جاءت بهذه اللام اكتفوا بها دليلا على التعجب من إظهار الفعل منه. وقال الزجاج: هي مردودة إلى ما بعدها تقديره: فليعبدوا ربَّ هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف. وقال [ابن عيينة]: لنعمتي على قريش. وقريش هم ولد النضر بن كنانة، وكل من ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي. أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي، أخبرنا عبد الله بن مسلم أبو بكر الجوربذي، حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي، أخبرنا بشر بن بكر عن الأوزاعي، حدثني شداد أبو عمار، حدثنا واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". وسموا قريشًا من القرش، والتقُّرش وهو التكسب والجمع، يقال: فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب، وهم كانوا تجارًا حراصًا على جمع المال والإفضال. وقال أبو ريحانة: سأل معاوية عبد الله بن عباسٍ: لِمَ سُميت قريش قريشًا؟ قال: لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه يقال لها القرش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، قال: وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، فأنشده شعر الجمحي: وقُرَيْش هي التي تَسْكُنُ البحر *** بها سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا سلَّطَتْ بالعُلُوّ في لجة البحر *** على سائر البُحور جُيُوشَا تأكل الغثَّ والسمين ولا تترك *** فيه لذي الجَناحَيْن رِيْشَا هكذا في الكتاب حي قريش *** يأكلونَ البلاد أكلا [كميشا] ولهم في آخر الزمان نبيٌ *** يُكْثِرُ القَتْلَ فيهم والخُمُوشَا
{إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} قوله تعالى: {إِيلافِهِم} بدل من الإيلاف الأول {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}"رحلة" نصب على المصدر، أي ارتحالهم رحلة الشتاء والصيف. روى عكرمة، وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يُشَتُّون بمكة ويُصَيِّفُون بالطائف، فأمرهم الله تعالى أن يقيموا بالحرم ويعبدوا رب هذا البيت. وقال الآخرون: كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة، إحداهما في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفا والأخرى في الصيف إلى الشام. وكان الحرم واديًا جدبًا لا زرع فيه ولا ضرع، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم، وكان لا يتعرض لهم أحد بسوء، كانوا يقولون: قريش سكان حرم الله وولاة بيته فلولا الرحلتان لم يكن لهم بمكة مقام، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف، وشق عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام فأخصبت تَبَالَة وجُرَش من بلاد اليمن، فحملوا الطعام إلى مكة، أهل الساحل من البحر على السفن وأهل البر على الإبل والحمير فألقى أهل الساحل بجدة، وأهل البر بالمحصب، وأخصب الشام فحملوا الطعام إلى مكة فألقوا بالأبطح، فامتاروا من قريب وكفاهم الله مؤنة الرحلتين، وأمرهم بعبادة رب البيت فقال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أي الكعبة. {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} أي من بعد جوع بحمل الميرة إلى مكة {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} بالحرم وكونهم من أهل [مكة] حتى لم يتعرض لهم [في رحلتهم] وقال عطاء عن ابن عباس: إنهم كانوا في ضرٍّ ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين، وكانوا يقسمون ربحهم بين الفقير والغني حتى كان فقيرهم كغنيهم. قال الكلبي: وكان أول من حمل [السمراء] من الشام ورحل إليها الإبل: هاشم بن عبد مناف وفيه يقول الشاعر: قل للذي طلب السماحةَ والندى *** هلا مررت بآل عبد مناف هلا مررت بهم تريد قِراهم *** منعوكَ من ضرِّ ومن أكفاف الرائشين وليس يُوجدُ رائِش *** والقائلين هلمَّ للأضيافِ والخالطين فقيرهم بغنيهم *** حتى يكونَ فقيرُهم كالكافي والقائمين بكل وعد صادق *** والراحلين برحلة الإيلاف عمرو [العلا] هَشَم الثريدَ لقومه *** ورجال مكة [مُسْنِتُونَ] عجاف سَفَرَيْن سنهما له ولقومِهِ *** سفَرَ الشتاءِ ورحلةَ الأصيافِ وقال الضحاك والربيع وسفيان: "وآمتهم من خوف" من خوف الجذام، فلا يصيبهم ببلدهم الجذام.
|